• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الفن الإسلامي.. بين حرية الجمال وحدود الدين

نور علوان

الفن الإسلامي.. بين حرية الجمال وحدود الدين

وظّفت الحضارة الإسلامية الفن لخدمة الدِّين والعلم، فلم تكن إنتاجاتها وصناعاتها الفنّية عشوائية، بل كانت تعتمد على عناصر محددة وأساليب واضحة لتعبر عن معتقداتها وأفكارها بصورة جمالية وفنّية، دون تجاوز الحدود المحرمة أو الإسراف بالمواد الخامة، فلقد خلقت توازن فني بين قدسية الدِّين وحداثة الدنيا.

قام الفن الإسلامي على أكتاف العصر الأموي وانتقل تدريجياً إلى العصور اللاحقة التي ابتكرت جميعها عناصر فنّية مختلفة أضافت جمالاً وتميزاً مختلفاً للإرث الفنّي الذي تركته الحضارة الإسلامية للعالم بداية من إسبانيا ونهاية بالهند، ولا شك أنّ الفن الإسلامي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بعمارة المساجد التي عكست جوهر المبادئ الإسلامية المبنية على البساطة والتواضع، وهناك عناصر أساسية ميّزت هذا الفنّ عن غيره، ومنها:

فنّ التوريق

تبلّورت شخصية الفنّ الإسلامي في ميدان الطبيعة، وركّز على الزخارف والرسومات النباتية واهتمت بأجزاء معيّنة من النباتات والزهور، مثل الوريقات والغصون والفروع، ورسمها بأشكال منحنية ومتداخلة ومتشابكة أو متناظرة، حيث استخدمت في تزيين الأبواب والحيطان والسقوف، وكثر استخدامها في سوريا والعراق ومصر في عصر المماليك، بين القرنين الثالث عشر والتاسع ميلادي.

الزخارف الهندسية

شاع استخدامها في العصر الأموي باستخدام أشكال سداسية وثمانية ودائرية متقاطعة ومتفرعة، وبها ظهرت مهارة التلاعب بالظل والنور على الأجزاء الغائرة والبارزة في الزخارف، وفي نفس الفترة، انتشرت رسومات الحيوانات المتقابلة أو المتدابرة، بالإضافة إلى التصاوير الجدارية التي زيّنت القصور والحمامات مثل ما عثر عليه في قصر الخير الذي بناه هشام بن عبدالملك، وقصر عمر في بادية الشام، وقصر الجوسق الخاقاني بسامراء الذي بناه هارون الرشيد، والحمامات الفاطمية في مصر، علماً، أنّ هذه الجداريات لم تكن بالكثرة التي وجدت في الدول الأوروبية، وذلك لاختلاف الآراء وتضارب الفتاوي الدينية الإسلامية حول حكم التصوير.

وبهذا يقول الناقد الفرنسي هنري فوسيون: "ما أخال شيئاً يمكنه أن يجرّد الحياة من ثوبها الظاهر، وينقلنا إلى مضمونها الدفين مثل التشكيلات الهندسية للزخارف الإسلامية، فليست هذه التشكيلات سوى ثمرة تفكير قائم على الحساب الدقيق، قد يتحوّل إلى نوع من الرسوم البيانية لأفكار فلسفية ومعانٍ روحية، غير أنّه ينبغي ألا يفوتنا أنّه من خلال هذا الإطار التجريدي تنطلق حياة متدفقة عبر الخطوط… وجميعها تخفي وتكشف في آن واحد عن سر ما تتضمنه من إمكانات وطاقات بلا حدود".

الخطّ العربي

اعتنت الحضارة الإسلامية بحروفها العربية وجمال خطوطها المبتكرة والمتنوّعة، وجعلت من الحرف العربي عنصر رئيسي في زخارفها، واهتمت بتطويره حتى أصبح إرثاً ثقافياً بمفرده، فلقد استعملت الكتابة باللغة العربية في نقش كلمات الحمد والتسبيح، واستخدم بكثرة في كتابة المصاحف والوثائق الرسمية المهمّة والذي انتشر فيما بعد في جميع الأقطار الإسلامية.

تصاميم الفسيفساء

استخدمت الفسيفساء بشكل كبير من قبل المسلمين الذين صنعوا منها أشكالاً هندسية وتفننوا في تطوير جمال ألوانها وتناسق قطعها المكعبة الزجاجية والرخامية والصدفية، وزيّنوا بها المآذن والقباب، واستخدموها في القصور والأحواض المائية، وعثر عليها في المسجد الأموي بدمشق وقصر هشام في فلسطين بمدينة أريحا.

بواسطة هذه الأشكال استطاع الفن الإسلامي أن يجرّد هذه التعابير من قيمتها المادّية وخلق جمال بصري في الألوان والخطوط المتداخلة والمتناظرة والمتشابكة بأساليب مختلفة، ونجد تركيز واضح على التكرار والنسخ وهذا يترجم الفلسفة التي يقوم عليها الفنّ الإسلامي فكلّ الأشكال التي تتكرّر وتدور تشير إلى أنّ الله هو مركز الكون وكلّ شيء يبدأ منه ويعود إليه.

وامتاز كلّ عصر من العصور الإسلامية بصبغة فنّية مختلفة، فمثلاً اشتهر الطراز الفاطمي بكثرة الأبواب الضخمة المزينة برسوم آدامية وحيوانية، ودقته العالية في النقش على الجبص والرسم على المصنوعات الزجاجية مثل: الكؤوس والأباريق والأطباق، أمّا الطراز المملوكي اشتهر بصناعة التحف النفيسة والنحاسية، وبما يخص فنّ الخطّ، فلقد اعتمدوا على خطّ النسخ بكتابة أسماء السلاطين والأمراء، وبرعوا في رسم الأشكال الهندسية متعدّدة الأضلاع، واستخدموا الفسيفساء الرخامية على هيئة معينات ومثلثات وخطوط متقاطعة ومتشابكة.

خصائص الفن الإسلامي

ابتكر الفن الإسلامي الخزف ذا البريق المعدني بسبب تحريم الشريعة الإسلامية استخدام معدني الفضة والذهب في تزيين المساجد أو استخدامها في صناعة الأواني والأطباق، ومع هذا التطوّر ابتكرت زخارف الأرابيسك وهي تداخل الأشكال النباتية مع الأشكال الهندسية، وذلك بتصاميم مركبة أو بسيطة، والتي كانت ترسم أيضاً على الأسلحة والسيوف.

داخل هذا الإطار يمكن القول إنّ الفنّ الإسلامي ابتعد عن مظاهر الترف والبهرجة المبالغة بها، وارتكز بالمقابل على التقشف في أدواته مستخدماً مواد بسيطة مثل: الخشب والزجاج والصلصال في أعماله الفنّية، وحارب استخدام الفضة والذهب في تزيين المساجد والآثار الإسلامية، ومع هذا استطاع أن يخلق تحف فنّية قيمة وزخارف بارعة الجمال دون أن يستعمل الأحجار الكريمة.

وبالجانب من هذا، ابتعد الفنّ الإسلامي عن النحت وكان موقفه واضحاً وصارماً في هذا المجال إذ قال إنّ التماثيل أو الصور المجسمة لذوات الأرواح هي أشد أنواع التصاوير تحريماً، حتى وإن كانت لأسباب فنّية، وذلك لارتباطها بالمظاهر الوثنية التي تمثّلت بعبادة الأصنام، وذلك بالعكس تماماً، من الحضارات الأخرى مثل: الأغريقية والرومانية التي اجتهدت في نحت وتجسيد الجسم البشري بكلّ تفاصيله لأسباب جمالية وثقافية كتصوير القوّة الجسدية والقتالية.

ويمكن ملاحظة تأثير الفن الإسلامي على الحضارات الأخرى عند رؤية العمارة في الجزيرة الإيطالية صقلية والتي اعتمدت في عمارتها على الأعمدة الإسلامية، أو من خلال استعانة الإنجليز بالرسوم النباتية، والإيطاليون باستخدام الأحجار زاهية الألوان والتي انتشرت في العصر المملوكي، وتتضح مظاهر التأثر بشكل أكبر في قبة مونت سانت أنجلو وقصر روفولو في إيطاليا وتأثر كنيسة سرقسطة.

وبذلك يمكن معرفة أهمية الفنون الدينية في استنباط الزاويا الثقافية والعقائدية لكلّ حضارة ودين، وبالرغم من جميع اختلافات الحضارة الإسلامية وموروثاتها الثقافية إلّا أنّها نجحت في الانتشار في مناطق شاسعة وبسرعة فائقة متغلبة على جميع الفوارق والتآثيرات الخارجية.

ارسال التعليق

Top